الملاذ المحسوب: كيف تدير بريطانيا نفوذ الإخوان تحت غطاء الحرية
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، أعادت بريطانيا تعريف علاقتها بالإسلام السياسي — لا بوصفه تهديداً أمنياً ينبغي استئصاله، بل باعتباره مورداً استخباراتياً يمكن إدارته والتحكم فيه.
فبينما تعاملت دول الشرق الأوسط مع جماعة الإخوان المسلمين كخطر وجودي على الدولة، نظرت لندن إليها كفرصة للفهم والتأثير. لم يكن ذلك موقفاً أخلاقياً، بل قراراً محسوباً: تحويل حركة عابرة للحدود إلى أداة قابلة للتطويع ضمن منظومة القوة الناعمة. في القاموس السياسي البريطاني، عُرف هذا النهج باسم «الاحتواء الوظيفي» — أي إبقاء الجماعة تحت المراقبة مع الاستفادة من امتداداتها التحليلية والاجتماعية.
أقرّ تقرير الحكومة البريطانية لعام 2015 المعنون «مراجعة الإخوان المسلمين»
(رابط التقرير الرسمي)
بأن شخصيات من الجماعة تستخدم الأراضي البريطانية قاعدة لنشاطها الدولي، لكنه تجنّب التوصية بحظرها. هذا الغموض منح الجماعة شرعية فعلية بحكم الأمر الواقع، ومكّنها من العمل داخل حدود القانون البريطاني وتحت رقابة دائمة من أجهزة الدولة.
لم يكن الهدف تفكيك الظاهرة، بل تدجينها — تحويل المراقبة إلى أداة حكم مستدامة.
على مدى السنوات التالية، تشكّلت شبكة واسعة من مراكز الأبحاث والجمعيات الخيرية والمنصات الإعلامية، تعمل علناً ضمن الإطار القانوني البريطاني لكنها تعيد إنتاج الخطاب الأيديولوجي للإخوان بلغة أكثر صقلاً وهدوءا.
وُصفت مؤسسة قرطبة، في تقرير مركز Policy Exchange، بأنها «المحور الفكري الرئيس للإخوان في أوروبا»
(الرابط)،
وتعمل جنباً إلى جنب مع منصات مثل Middle East Monitor وقناة الحوار.
تُشكّل هذه المنظومة البنية المرئية لجهاز نفوذ ناعم يستهدف أساساً الحد من تأثير النماذج الدولتية المصرية والإماراتية، مع التماهي غير المباشر مع الأجندتين القطرية والتركية.
أما التدفقات المالية التي تغذي هذا النظام فتكشف عن اتساقه البنيوي.
تُظهر بيانات Companies House ولجنة الجمعيات الخيرية البريطانية تحويلات منتظمة من مؤسسات قطرية وتركية إلى كيانات مقرها لندن، غالباً تحت مسميات بريئة مثل «دعم ثقافي» أو «شراكة بحثية»
(الرابط الرسمي).
ورغم قانونية هذه التحويلات شكلاً، فإنها تؤدي وظيفتين استراتيجيتين مزدوجتين:
تمويل الوجود المؤسسي للجماعة في أوروبا، والحفاظ على آلية ضغط سياسية يمكن تفعيلها ضد الدول العربية التي تسعى لبناء نماذج دول ما بعد الإسلام السياسي.
يُظهر تحليل المصادر المفتوحة (OSINT) شبكة مثلثة الأركان تربط ثلاث عقد رئيسية:
الدوحة (التمويل والشرعية) ← أنقرة (التنسيق واللوجستيات) ← لندن (الاحتضان القانوني وصناعة السردية).
هذا المثلث أتاح حركة سلسة للموارد والأفكار والنفوذ، محمية بغطاء القوانين البريطانية الشفافة.
صمت بريطانيا إزاء هذه التدفقات ليس جهلاً، بل استراتيجية.
فالسماح بتدفق الأموال ضمن نظام قانوني شفاف يمنح أجهزتها الاستخباراتية قدرة دائمة على الرصد والاختراق.
ًإنه شكل من الانفتاح المراقَب: كلما اتسعت الحرية، ازدادت الرقابة إحكاما.
لم تعد الجماعة تُعامل كخصم خارجي، بل كمتغيّر داخلي في بنية النفوذ البريطاني.
تجلّت هذه العلاقة الوظيفية في عدة ساحات.
في ليبيا، صاغت المنظمات البريطانية خطابًا يقدّم إشراك الإسلاميين بوصفه شرطاً للاستقرار السياسي، مع تصوير القوى العسكرية الموالية للدولة على أنها «ثورة مضادة».
وفي السودان، أعادت تلك المنصات تأطير الفوضى التي تلت عام 2019 بخطاب حقوقي يُخفي الدور القطري–التركي في إعادة إدماج النخب الإسلامية في المرحلة الانتقالية.
وفي القرن الأفريقي، استُخدمت السرديات ذاتها لمهاجمة الاستثمارات الإماراتية في الموانئ تحت شعار «الدفاع عن السيادة الأفريقية».
في كل حالة، يتقاطع نشاط الإخوان في لندن مع المنطق الدبلوماسي البريطاني الأوسع: النفوذ عبر السرد، لا القوة.
على المستوى البنيوي، يعكس هذا التحول تغيرًا أعمق في طبيعة القوة ذاتها.
فالأدوات التقليدية للإكراه تراجعت لصالح ما يمكن تسميته بـ«اقتصاد النفوذ الرمزي» — نظام تُتداول فيه المعرفة والخطاب والشرعية كموارد استراتيجية.
تغدو الجمعيات الخيرية وسائل تمويل سياسي، والمنصات الإعلامية أدوات لإدارة الإدراك، ومراكز الأبحاث مصانع للمفردات التحليلية التي تُضفي الاحترام الأكاديمي على المشاريع الأيديولوجية.
وبهذا، لا تكتفي لندن بدور مركز القرار في شؤون الشرق الأوسط، بل تتحول إلى منتِج للمعنى حوله.
هذا التحول يتقاطع مع العقيدة الأوروبية بعد حرب أوكرانيا:
الاستعاضة عن التحكم عبر التدخل بـالتحكم عبر التأثير.
إدارة الفاعلين العابرين للحدود، التي كانت وظيفة أمنية، باتت اليوم اقتصاد نفوذ يجمع بين الاستخبارات والدبلوماسية وحرب السرديات.
وبذلك، فإن احتواء بريطانيا للإخوان ينسجم مع الاتجاه الأوروبي الأوسع في إعادة تعريف القوة الناعمة كأداة استقرار استباقي.
لكن هذا النموذج من الاحتواء ينطوي على مفارقات خطيرة.
كل توسّع في حضور الجماعة داخل بريطانيا يُضعف الثقة السياسية مع حلفائها العرب.
كل غموض في الخطاب يزيد من الانطباع بالتواطؤ الضمني.
المكاسب التكتيكية في جمع المعلومات أصبحت تفوقها الخسائر الاستراتيجية: تآكل المصداقية وضبابية الحدود الأخلاقية للدولة.
ما بدأ كتجربة في السيطرة تحوّل إلى اعتماد متبادل يصعب فكّه.
على المستوى الأوروبي الأوسع، تكشف هذه الحالة عن مفارقة الحكم الليبرالي في التعامل مع الحركات الأيديولوجية:
فأوروبا التي تعظ بالشفافية وحقوق الإنسان، تستضيف في الوقت ذاته تنظيمات تُحوّل هذه المبادئ إلى أدوات لزعزعة استقرار أنظمة أخرى.
قوة النظام الليبرالي — أي تسامحه — تتحول إلى نقطة ضعفه حين تُختزل الحرية نفسها إلى سلعة في سوق النفوذ الجيوسياسي.
في الخلاصة، أعادت بريطانيا تفسير مفهوم «اللجوء السياسي» باعتباره أداة من أدوات السياسة الخارجية.
وجود الإخوان في لندن لم يكن صدفة إنسانية، بل عنصرًا محسوبًا في شبكة نفوذ عابرة للحدود تمتد عبر الإعلام والدبلوماسية والتمويل.
منحت هذه الصيغة لندن قدرة استثنائية على تشكيل السرديات الإقليمية، لكنها في الوقت ذاته شوّشت الخط الفاصل بين المبدأ والمصلحة، بين الحرية كقيمة والحرية كأداة.
إنها المفارقة البريطانية الكلاسيكية: دولة تتقن إدارة المنطقة الرمادية — تبني قوتها في المسافة بين الشفافية والسرية، بين الحرية والرقابة.
لكن هذا التوازن ليس أبدياً. فكلما طال أمد احتواء بريطانيا للإخوان، ازداد خطر تحوّل الاحتواء إلى تورط — وخطر أن يلتهم إمبراطور المعنى الذي بنته لندن باسم الحرية أسسه ذات يوم.
---
المراجع
1. Muslim Brotherhood Review – Main Findings, UK Government (2015).
2. The Muslim Brotherhood Review, Policy Exchange (2017).
3. Charity Commission for England and Wales – Public Register of Charities.
4. بيانات OSINT مستخلصة من سجلات Companies House والتصريحات المالية العامة (2023–2024).