The app for independent voices

وهم هودسون: كيف تُصنّع واشنطن سوداناً خيالياً

أنتجت الحرب السودانية صناعة كاملة من التعليقات والتحليلات، غير أن قليلين حظوا بقدر من التضخيم في الإعلام الغربي كالذي ناله كاميرون هودسون. عادة ما يُقدَّم هودسون باعتباره “خبيراً” محايداً، وصوتاً رصيناً لفهم الأزمة، ومسؤولاً أميركياً سابقاً يعرف المنطقة. لكن في واقع الأمر، تحليلاته تكشف شيئاً مختلفاً تماماً: ليست محاولة لفهم السودان، بل محاولة لتأديب طريقة فهمه. فصوت هودسون لا يصدر عن السودان، بل عن الهواجس الاستراتيجية لواشنطن والقاهرة وتل أبيب — وهذا ما يظهر بوضوح في كل جملة ينطق بها.

تقوم رؤية هودسون على ثلاث مسلّمات غير مفحوصة: أن الجيش السوداني هو حامل الشرعية، وأن قوات الدعم السريع انحراف خطير عن النظام، وأن مستقبل السودان السياسي لا يكون إلا تحت إشراف خارجي. هذه ببساطة ليست نتائج تحليلية، بل نقاط انطلاق أيديولوجية مبنية سلفاً، وتتماهى بالكامل مع مؤسسات أمنية تعجز عن تخيّل السودان خارج هرم عسكري متركّز في الخرطوم.

وهذا التماهي مفهوم تماماً. فالولايات المتحدة تفضّل فاعلين يمكن إدارتهم. ومصر تحتاج إلى سلسلة قيادة مركزية في الخرطوم كشرط لبقائها الاستراتيجي. بينما تفضّل إسرائيل “الاستقرار عبر السيطرة” في البحر الأحمر بدلاً من أي تعددية سياسية حقيقية. تعليق هودسون يجري داخل هذه الحدود بلا أي انحراف؛ فهو لا يتحدث من الهامش بل من مركز السردية التي تنتجه وتمنحه شرعيته.

وتتجلى هندسته السردية بوضوح في جملته الأخيرة: “كان يمكن للحرب أن تنتهي منذ وقت طويل لولا أن الإمارات صنعت طوق نار حول السودان.” هذه العبارة تختصر بدقة الآلية التي يعمل بها. فهي تُخرِج جذور الصراع من سياقه الداخلي الممتد لعقود، وتحوله إلى قصة أخلاقية عن “تدخل خارجي سيئ”. وتمحو الوكالة السياسية عن السودانيين كأنهم مجرد بيادق خليجية. وتخفي — بشكل متعمّد — الدور الأعمق والأخطر لمصر في صناعة الأزمة العسكرية واستدامتها. كما تختزل واقعاً سياسياً ما بعد الدولة في ثنائية مبسّطة تُرضي الذوق الأخلاقي للغرب: “مجتمع دولي خيّر” تعرقله أطراف غير منضبطة. إن هذا — في جوهره — ليس تحليلاً، بل شكلٌ مفروض على الواقع لكي تطمئن واشنطن لنفسها.

اللغة التي يستخدمها هودسون ليست بريئة. فثنائية “جيش/ميليشيا” ليست توصيفاً، بل توزيعاً للشرعية. وعبارة “إصلاح القطاع الأمني”، التي تبدو تقنية، ليست سوى كود يشير إلى إعادة هيكلة تحت إشراف خارجي يعيد إنتاج الهيمنة الغربية. وحتى الغضب في خطابه مُنَظم وموجَّه: تُدان الإمارات بوضوح، بينما تُحصَّن مصر بلطف. إنها لغة إمبريالية ناعمة، لا لغة باحث مستقل.

اللافت أكثر هو ما يتجنب هودسون قوله: انهيار المؤسسة العسكرية السودانية قبل 2023 بسنوات، ونشأة الدعم السريع من داخل هذه المؤسسة نفسها، لا من خارجها. وإفلاس الطبقة السياسية المدنية بعد 2019. ثم الواقع الجديد الذي لم يعد يشبه دولة ويستفاليا، بل ساحة سيادة متعددة تُنتَج فيها السلطة عبر السيطرة على الأرض، والشبكات الاجتماعية، والقدرة الاقتصادية، والتحالفات الإقليمية. تجاهل هذه الحقائق ليس صدفة؛ إنه شرط ضروري للحفاظ على الخيال الذي يروّجه هودسون: أن السودان يمكن “إصلاحه” بإحياء جيش متداعٍ تحت وصاية خارجية. لكن هذا العالم لم يعد موجوداً.

خطورة هودسون لا تكمن في أخطائه، بل في تضخيم صوته. فقد أصبح الراوي الأنسب لصناع قرار يبحثون عن قصة بسيطة لا تربكهم، ويريدون السودان ملفاً أمنياً قابلاً للإدارة، لا واقعاً سياسياً معقّداً يفرض التفكير الجاد. يمنحهم هودسون وهم المعرفة دون جهد الفهم. والوهم، حين يتحول إلى سياسة، يكون ثمنه فادحاً.

لقد أُسيءَ فهم السودان مراراً من الخارج بسبب القوالب الجاهزة التي يُجبَر على الدخول فيها. فالخيال الأمني الغربي الحالي عاجز تماماً عن تخيّل بلد تتوزع فيه الفاعلية بين قوى متعددة، ولا يحتكر أحد فيه الشرعية أو القوة، وقد تظهر فيه ترتيبات سياسية جديدة لا تشبه ما تتوقعه واشنطن أو القاهرة. ولأن الخيال عاجز، تتدخل السرديات المصنّعة — عبر محللين مثل هودسون — لإعادة العالم إلى شكله القديم.

غير أن السودان لا يمكن فهمه عبر مخاوف الآخرين. ومعظم تحليلات هودسون ليست سوى مخاوف مقنّعة: خوف من فاعلين أفارقة مستقلين، خوف من صعود الخليج، خوف من فقدان السيطرة على البحر الأحمر، خوف من واقع ما بعد الدولة الذي لا تنطبق عليه خرائط النفوذ القديمة. تحليلاته تعكس قلقاً غربياً من تآكل النفوذ أكثر مما تعكس فهماً للسودان.

في النهاية، القضية ليست هودسون بحد ذاته، بل الخيال السياسي الذي ينتجه ويدافع عنه: سودان متجمّد في ماضٍ انتهى. أمّا مهمتي — كمحللة سودانية — فهي تسمية ما ينهار، وتفسير ما ينشأ، بلا إذن من عدسة أمنية غربية لا ترى السودان إلا كملف قابل للإدارة.

فالسودان لا يحتاج إلى سردية مصنوعة أخرى.

السودان يحتاج شجاعة أن يُرى كما هو.

Nov 13
at
9:52 AM

Log in or sign up

Join the most interesting and insightful discussions.